فصل: الفصل الخامس (مواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الخامس ‏[‏مواعظ‏]‏

أيتها النفس تدبري أمرك وتأملي، ومثلي بين ما يفنى ولا تعجلي، لقد ضللت طريق الهدى فقفي واسألي، وآثرت وهنا، ما يؤرث وهنا لا تفعلي، يا غمرة من الشقا، ما أراها تنجلي، اتبع الهوى والهوى علي وليس لي، أريد حياة نفسي ونفسي تريد مقتلي، يا جسداً قد بلى‏.‏ بما قد بلى‏.‏

نخطو وما خطونا إلا إلى الأجل*** وننقضي وكأن العمر لم يطل

والعيش يوذِننا بالمـوت أولـه*** ونحن نرغب في الأيام والدول *** يأتي الحمام فينسى المرء منـيتـه*** ونستقر وقد أمسكن بـالـطـول

لا تحسب العيش ذا طول فتتبعـه*** يا قرب ما بين عنق المرء والكفل

سلّى عن العيش أنا لا نـدوم لـه*** وهون الموت ما نلقى من العلـل

لنا بما ينقضي من عمرنا شـغـل*** وكلنا علق الأحشاء بـالـغـزل

ونستلذ الأمـانـي وهـي مـردية*** كشارب السم ممزوجاً مع العسل

أخواني‏:‏ أوقدوا أدهان الأذهان في ليل الفكر، صابروا سني الجدب لعام الخصب تعصروا، فمن أدلج في غياهب ليل العلى‏.‏ على نجايب الصبر، صبح منزل السرور في السر، ومن نام على فراش الكسل، سال به سيل التمادي إلى وادي الأسف، الرجولية قوة معجونة في طين الطبع، والأنوثية رخاوة، ولد السبع عزيز الهمة، وابن الذئب غدار، وكل إلى طبعه عايد، الجد كله حركة، والكسل كله سكون، إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة حين يخرج من البيضة، فعلقه بمنقاره، فإن تحرك فديك، وإلا فدجاجة، فُتورك عن السعي في طلب الفضائل دليل على تأنيث العزم، يا من قد بلغ أربعين سنة، وكل عمره نوم وسنة، يا متعباً في جمع المال بدنه، ثم لا يدري لمن قد أخزنه‏؟‏ اعلم هذه النفس الممتحنة، إنها بكسبها مرتهنة ألا يعتبر المغرور بمن قد دفنه‏؟‏ كم رأى جباراً فارق مسكنه‏؟‏ ثم سكن مسكن مسكنة‏.‏

أيا راحلين بالإقامة، يا هالكين بالسلامة، أين من أخذ صفو ما أنتم في كدره‏؟‏ أما وعظكم في سيره بسيره‏؟‏ بلى‏.‏ قد حمل بريد الإنذار أخبارهم، وأراكم تصفح الآثار آثارهم‏.‏

وحدثتك الليالي أن شيمـتـهـا*** تفريق ما جمعته فاسمع الخبرا

وكن على حذر منها فقد نصحت*** وانظر إليها تر الآيات والعبرا

فهل رأيت جديداً لم يعد خلـقـاً*** وهل سمعت بصفو لم يعد كدرا

حبال الدنيا خيال تغر الغر، المتمسك بها‏.‏ يلعب بلعاب الشمس، الدنيا كالمرآة الفاجرة لا تثبت مع زوج‏.‏ فلذلك عنت طلابها‏.‏‏.‏

ميزت بين جمالها وفعالـهـا*** فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي

حلفت لنا أن لا تخون عهودها*** فكأنما حلفت لنا أن لا تفـي

محبة الدنيا محنة، عيونها بابلية، كم تفتح باب بلية‏؟‏ ولا حيلة كحيلة، من عين كحيلة، كم أفردت من أرفدت‏؟‏ كم أخمدت من أخدمت‏؟‏ كم فللت من ألفت‏؟‏ كم أفقرت من أرفقت‏؟‏ كم فارقت من رافقت‏؟‏ كم قطعت من أقطعت‏؟‏ فعلها في التكدير كله هكذا، فإن آثرت الصفا فما في الزهد أذى، وإن أردت القذى، فالق ذا‏.‏ للمهيار‏:‏

تعجب من صبري على ألوانهـا*** في وصلها طوراً وفي هجرانها

ورهاء من كـلـفـهـا وثـيقة*** كلّفها ما لـيس مـن أديانـهـا

تسلط البلوى على عشـاقـهـا*** تسلُّط الحِنثِ على أيمـانـهـا

الود في القلب ودعـوى ودِّهـا*** لا يتعدى طرفَيْ لـسـانـهـا

فكما أعطـتـك فـي مـحـبة*** زيادةً فاقطع على نقصانـهـا

وقفتُ أسترجـع يومَ بـينـهـا*** قلباً شجاعاً طاح في أظعانهـا

ولـم يكـن مـنـي إلا ضـلّة*** نِشدانُ شيءٍ وهو في ضمانهـا

يا من إذا أصبح، طلب المعاش بالشهوات، وإذا أمسى انقلب إلى فراش الغفلات، أين أنت من أقوام نصبوا الآخرة نصب أعينهم فنصبوا، فوفر النصب نصيبهم ‏"‏إنّا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار‏"‏‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ لقيت رجلاً في برية، فقلت من أين‏؟‏ فقال‏:‏ من عند قوم ‏"‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏"‏ قلت‏:‏ وإلى أين‏؟‏ قال‏:‏ إلى قوم ‏"‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏"‏‏.‏

بنفسي من غداة نايت عنهم *** تركت القلب عندهم رهينا

أما لك أيها القلب اعتبـار *** بما فعل الهوى بالعاشقينا

ملأوا مراكب القلوب متاعاً لا ينفق إلا على الملك، فلما هبت رياح الدجى دفعت المراكب‏.‏

لأبي إسحاق الغزي‏:‏

إذا الصبا سحبت أذيالهـا سـحـراً *** على العقيق وقرت في ربى أضم

وحرشت بين بان الجزع ظـالـمة *** وشيحه وجرت في الضال والسلـم

تنفس الوجد وارتاح المشوق وعـا *** ش الروح بالروح بعد الأخذ بالكظم

يا سوق الأكل أين أرباب الصيام‏؟‏ يا فرش النوم أين حراس الظلام‏؟‏ درست والله المعالم ووقعت الخيام، قف بنا على الأطلال‏.‏

للمهيار‏:‏

أين سكانك‏؟‏ لا أين هـمُ*** أحجازاً سلوكها أم شئاما

قد وقفنا بعدهم في ربعهم*** فنبهناه استلاماً والتزاما

أترى أي طريق سلكوا‏؟‏ أترى أي شعب أخذوا‏؟‏‏.‏

حمامة الواديين ما الخبـر *** أعرسوا بالفرات أم عبروا

ما وصل القوم إلى المنزل‏.‏ إلا بعد طول السرى، ما نالوا حلاوة الراحة إلا بعد مرارة التعب‏.‏

لصردر‏:‏

لو قَرُبَ الدر على جلابـه*** ما لجّج الخايص في طِلابه

ولو أقام لازماً أصـدافَـه*** لم تكن التيجان في حسابـه

ما لؤلؤ البحر ولا مرجانـه*** إلا وراء الهول من عُبابـه

من يعشق العلياء يلق عندها*** ما لقي المحب من أحبابـه

ما حظي الدينار بنقش اسم الملك، حتى صبرت سبيكته على التردد على النار، فنفت عنها كل كدر، ثم صبرت على تقطيعها دنانير ثم صبرت على ضربها على السكة، فحينئذٍ ظهر عليها رقم النقش ‏"‏كتب في قلوبهم الإيمان‏"‏‏.‏

كم أحمل في هواك ذلاً وعنـا*** كم أصبر فيك تحت سقم وضنا

لا تطردني فليس لي عنك غنا*** هذا نفسي إذا أردت الثمـنـا

من طلب الأنفس، هجر الألذ، من اهتم بالجوهر نسي العرض، يا صفراء يا بيضاء غرى غيري‏.‏

من أجل هواكم عشقت العشقا*** قلبي كلف ودمعتي ما ترقـا

في حبكم يهون ما قد ألـقـى*** ما يحصل بالنعيم من لا يشقى

يا معشر التائبين ‏"‏اصبروا وصابروا ورابطوا‏"‏ مكابدة البادية تهون عند ذكر منى المضحى في بوادي الجوع والمعشى بوادي السهر إلى أن تلوح بوادي القبول، إن ونت في السير ركائبكم‏.‏ فأقيموا حداة العزم تدلج‏.‏

البين يا أيدي المطايا الـبـينـا*** لا تتشكى شوطك البـطـينـا

يا حادييها من نمـير عـامـر*** خذا بها عن حاجـر يمـينـا

حلا على وادي الغضى نسوعها*** وارخيا بـرامة الـوضـينـا

رُدا بها ماء الـعـذيب عـلـه*** يشفى ويطفي داءها الدفـينـا

واستخبرا بالجزع أنفاس الصبا*** أين استقل الجيرة الغـادونـا

يا مطروداً عن صحبة الصالحين، امش في أعراض الركب، وناشد حادي القوم، لعله يتوقف لك‏.‏

يا حادي العيس اصخ لمدنـف*** متـيم لـجَّ بـه الـغــرامُ

إذا وقفتَ في ثنيات الـلـوى*** ولا الـديار والــخـــيامُ

وافترت الرياض عن أزهارها*** عقيب ما قد رحل الغـمـامُ

وهبت الريح فهب شيحـهـا*** وانتبه الحـوذان والـثـمـامُ

فقف قليلاً نـتـزود نـظـرة*** تحيى بها الأرواح والسـلامُ

الفصل السادس ‏[‏في المواعظ‏]‏

أخواني‏:‏ انتبهوا من رقدات الأغمار، وانتبهوا لحظات الأعمار، وقاطعوا الكسل فقد قطع الأعذار، واسمعوا زواجر الزمن فما داجي الدجى ولقد بهر النهار، وخذوا بالحزم فقد شقي تلف من رضي بشفا جرف هار‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

تفوز بنا المنون وتسـتـبـد *** ويأخذنا الـزمـان ولا يَرُد

وانظر ماضياً في أثر ماضٍ *** لقد أيقنتُ أن الأمـر جـد

رويداً بالفرار من المـنـايا *** فليس يفوتها الساري المُجِدُّ

فأين ملوكنا الماضون قِدمـاً *** أعدوا للنوائب واستـعـدوا

أعارهم الزمانُ نعيم عـيش *** فيا سرعان ما استلبوا وردوا

هم فرطٌ لنا فـي كـل يوم *** نمدهمُ وإن لم يسـتـمـدوا

العمر يسير وهو يسير، فاقصروا عن التقصير في القصير، أما دراك دراك قبل امتناع الفكاك، حذار حذار قبل قدوم القرار، أما يحرك سوق الرهب سوق الهرب‏؟‏ أما يحث التعليم على الدأب الأدب‏؟‏ أليس الزمان يعير ثم يغير‏؟‏ وهب إنه وهب، أما ضرب الدهر‏؟‏ فاستحال الضرب، مر العمر والغمر مشغول عما ذهب بالذهب، كم فارق من رافق فسلا من سلا بالسلب، أين الفهم‏؟‏ فقد المعنّى المعنى وعج العجب، أين الثمرة‏؟‏ أيتها ‏.‏‏.‏ في الغرب، حالت غمايم الهوى، بينكم وبين شمس الهدى، وغدا ما في يومكم ينسيكم غداً حتى كأن الرحيل حديث خرافة، أو كان الزاد يفضل عن المسافة‏.‏

أيها الشيوخ‏:‏ آن الحصاد، أيها الكهول‏:‏ قرب الجداد، أيها الشباب‏:‏ كم جرد الزرع جراد‏.‏

يا ابن آدم لا تغررك عـافـية*** عليك شاملة فالعمر مـعـدود

ما أنت إلا كزرع عند خضرته*** بكل شيء من الأوقات مقصود

فإن سلمت من الآفات أجمعهـا *** فأنت عند كمال الأمر محصود

واعجبا‏!‏‏.‏‏.‏ يتأمل الحيوان البهيم العواقب، وأنت لا ترى إلا الحاضر، ما تكاد تهتم بمؤنة الشتاء حتى يقوى البرد، ولا بمؤنة الصيف حتى يشتد الحر، ومن هذه صفته في أمور الدنيا ‏"‏فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا‏"‏ هذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر‏؟‏ فهلا بعثت لك فراش تقوى ‏"‏فلأنفسهم يمهدون‏"‏ هذا اليربوع لا يتخذ بيتاً إلا في موضع طيب مرتفع، ليسلم من سيل أو حافر، ثم لا يجعله إلا عند أكمة أو صخرة، فإذا أتى من باب دفع برأسه مارق وخرج‏.‏

اسمع يا من قد ضيق على نفسه الخناق في فعل المعاصي، فما أبقى لعذر موضعاً، يا مقهوراً بغلبة النفس صل عليها بسوط العزم، فإنها إن علمت جدك استأسرت لك، امنعها ملذوذ مباحها ليقع الصلح على ترك الحرام، فإذا ضجت لطلب المباح ‏"‏فإمّا منّاً بعدُ وإمّا فداء‏"‏ الدنيا والشيطان خارجيان، خارجان عليك خارجان عنك، فالنفس عدو مباطن، ومن آداب الجهاد ‏"‏قاتِلوا الذي يَلونكم‏"‏ ليس من بارز المحاربة كمن كمن، ما دامت النفس حية تسعى، فهي حية تسعى، أقل فعل لها تمزيق العمر بكف التبذير، كالخرقاء وجدت صوفاً، أخل بها في بيت الفكر ساعة، وانظر، هل هي معك أو عليك‏؟‏ نادها بلسان التذكرة، يا نفس ذهب عرش بلقيس، وبلي جمال شيرين، وتمزق فرش بوران، وبقي نسك رابعة، يا نفس صابري عطش الهجير يحصل الصوم، وتحزمي تحزم الأجير فإنما هو يوم‏:‏

جد في الجد قد تولى العـمـر *** كم ذا التفريط قد تدانى المـر

أقبل فعسى يُقبل منك الـعـذر *** كم تبني وكم تنقض كم ذا الغدر

يا هذا ذرات الوجود تستدعيك إلى الموجد، ورسايل العتاب على انقطاعك متصلة، فما هذا التوقف‏؟‏

كم كم ذا الهجر وافتراق الأحباب *** هل بعد البعد للذي غـاب إياب

كم قد خطت إليكم الكف كتـاب *** خلوا العتب ثم ما جاء جـواب

يا هذا‏!‏ دبر دينك كما دبرت دنياك، لو علق بثوبك مسمار رجعت إلى وراء لتخلصه، هذا مسمار الإضرار قد تشبث بقلبك، فلو عدت إلى الندم خطوتين تخلصت، هيهات صبي الغفلة كلما حرك نام، يا مجنون الهوى أما مارستان العزلة، وقيد الحمية، ومعالجة سلاسل التقوى، ومرافقة بشر ومعروف، وإلا فمارستان جهنم، في أنكال العقوبة، وصحبة إبليس، لا بد من جرم عزم، يؤخذ بالحزم لينتصر من عايث الشره، سلطان الأزم، من رق لبكاء الطفل لم يقدر على فطامه، كل يوم تحضر المجلس يقف لك الشيطان على الباب، فإذا خرجت كما دخلت قال فديت من لا يفلح، وأسفي كم تطلب الخضر وما ترى إلا اليأس، ويحك اعرف ما ضاع منك، وابك بكاء من يدري قيمة الفايت، وصح في السحر

إن كان عهود وصلكم قد درست *** فالروح إلى سواكم ما أنسـت

أغصان هواكم بقلبي غرسـت *** منوا بلقـائكـم وإلا يبـسـت

واستنشقت ريح الأسحار لأفاق قلبك المخمور وتخايلت قرب الأحباب أقمت المآتم على بعدك‏.‏

ما أشوقني إلى نسـيم الـرنـد *** يشفي سقمي إذا أتى من نجـد

والشيح فإنه مـثـير الـوجـد *** شوقي شوقي له ووجدي وجدي

كان بعض السلف يقول في مناجاته‏:‏ إلهي‏!‏ إنما أبكي لما قسمت الأقسام‏.‏ جعلت التفريط حظي فأنا أبكي على بختي‏.‏

قد كنت من قبل النوى *** مما ألاقي جـزعـا

تركتموني بـعـدكـم *** أشرب دمعي جرعا

أخواني‏.‏ تعالوا نرق دمع تأسفنا على قبح تخلفنا، ونبعث مع قاصدي الحبيب رسالة محصر لعلنا باجر المصاب‏.‏ إن لم يرجع المفقود، يا أرباب القلوب الضايعة ‏"‏اذهبوا فتحسَّسوا من يوسف‏"‏‏.‏

هذي معالمهـم ومـا *** لي منذ بان القوم عهد

واها لعيش بالحمـى *** لو كان لي يوماً يرد

ويلي أحظِّـي كـلـه *** من حبكم هجر وصد

الفصل السابع ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني‏:‏ ذهبت الأيام، وكتبت الآثام، وإنما ينفع الملام متيقظاً والسلام‏.‏

وعـظـتـنـا بـمـرهــا الأيام*** وارتـنـا مـصـيرنـا الأرجـامُ

ودعتنا المنون في سنة الـغـفـلة *** هبـوا واسـتـيقـظـوا يا نـيام

ليت شعري ما يتقي المرء والرامي*** له الموت والخـطـوب سـهـامُ

منهل واحـد شـرايعـه شـتـى*** علـيه لـلـواردين ازدحـــامُ

نتحاماه ما استطـعـنـا وتـحـدو*** نا إلـيه الـشـهـور والأعـوامُ

وإذا راعـنـا فـقـيد نـسـينـاه*** تناسي مـا راعـهـن الـسـوامُ

أوقوفاً على غـرور وقـد زلـت*** بمـن كـان قـبـلـنـا الأقـدامُ

ووراء المصير في هـذه الأجـدا*** ث دار يكون فـيهـا الـمـقـامُ

يا من صحيفته بالذنوب قد خفت، وموازينه لكثرة العيوب قد حفت، يا مستوطناً والمزعجات قد ذفت، لا تغتر بأغصان المنى وإن أورقت ورفت، فكأنك بها قد صوحت وجفت، أما رأيت أكفاً عن مطالبها قد كفت‏؟‏ أما شاهدت عرايس الأجساد إلى الإلحاد زفت‏؟‏ أما عاينت سطور الأجسام في كتب الأرجام قد أدرجت ولفت، أما أبصرت قبور القوم‏؟‏ في رقاع بقاع القاع قد صفت، من عرف تصرف الأيام لم يغفل الاستعداد، إن قرب المنية، ليضحك من بعد الأمنية، ما جرى عبد في عنان أمله إلا عثر في الطريق بأجله‏.‏

أخواني خلفنا نتقلب في ستة أسفار، إلى أن يستقر بنا المنزل، السفر الأول، سفر السلالة من الطين، والثاني سفر النطفة من الصلب، والثالث من البطون إلى الدنيا، والرابع، من الدنيا إلى القبور، والخامس من القبور إلى العرض، والسادس إلى منزل الإقامة، فقد قطعنا نصف الطريق، وما بعد أصعب‏.‏

أخواني‏.‏ السنون مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رؤس أموال، والمعاصي قطاع الطريق، والريح الجنة، والخسران النار، لهذا الخطب شمر المتقون عن سوق الجد في سوق المعاملة، كلما رأوا مراكب الحياة تخطف في بحر العمر شغلهم هول ما هم فيه عن التنزه في عجائب البحر، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الدهر‏.‏

المهيار‏:‏

زمّوا المطايا فدمع العين منطلـق*** والقلب عان وراء الخوف مأسورُ

فلم يهبهب بأولى الزجر سائقهـم*** حتى تشابك مهتوك ومسـتـورُ

فغلّسوا من زرود وجه يومـهـم*** وحطّهم لظلال البان تـهـجـيرُ

وضمنوا الليل سلعاً إذ رأوه وقـد*** غنت على فتنى سلع العصافـير

أملهم أقصر من فتر، منازلهم أفقر من قبر، نومهم أعز من الوفاء، السهر عندهم أحلى من رقدة الفجر، أخبارهم أرق من نسيم السحر، آماقهم بالدموع دامية، والهموم على الجوانح جوانح، لأنفسهم أنفاس، من مثلها يهيج البهيج، روض رياضتهم مطلول الخمايل، يحدث ريّاً عنهم، فالرايحة رائجة بالخير‏.‏

للمهيار‏:‏

يا سايق الأظعان إن مع الصَّبا *** خبراً لو أنك للصبا تتوقـفُ

هبّت بعارفة تسوق من الحمى *** أرجاً بريّا أهلـه يتـعـرّفُ

خذ حديث القوم جملة واقنع بالعنوان، كواكب هممهم في بروج عزائمهم، سيارة‏.‏ ليس فيها زحل، ناموا في الدجى على مهاد القلق، فلما جن الليل‏.‏ جن الحذر، فاستيقظت عين‏.‏ ما تهنأت بطعم الرقاد‏.‏

كفى سائقاً بالشوق بين الأضالع *** لهيب اشتياق ثم فيض مدامع

فركبوا عيس القصد، وركبوا الجادة، فلما غنت الحداة، رنت الفلاة، فأعربت أبيات الشعر، عن أبيات الشعر، فعصفت رياح الزفرات من قلب المشوق، فانقلع شكر الدمع، فلو رأيت وَكْفَ شؤونهم قلت قد انقطع شريان الغمام، هذا‏.‏ يعاتب نفسه على التقصير، وهذا يتفكر في هول المصير، وهذا يخاف من ناقد بصير، منازل تعبدهم متناوحة، وفي كل بيت منهم نايحة، تائبهم أبكى من متمم، ومحبهم أتيم من مرقش، ومشتاقهم أقلق من قيس، وكلهم قد بات بليل النابغة التائب يقول أنا المقر على نفسي بالخيانة، أنا الشاهد عليها بالجناية‏.‏

اعف عني واقلني عن عثرتي*** يا عتادي لملمات الـزمـن

لا تعاقبني فقد عـاقـبـنـي*** ندم أقلق روحي في البـدن

لا تطير وسناً عن مقـلـتـي*** أنت أهديت لها حلو الوسـن

يا حبيبي بلسان الـعـربـي*** ولسان الفارسي يا دوست من

والمتعبد يبكي على الفتور بكاء الثكلى بين القبور، ويندب زمان الوصال ويتأسف على تغير الحال‏.‏

قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم فكدرته يد الأيام حين صفا‏.‏

والخائف ينادي ليت شعري ما الذي أسقطني من عينك‏؟‏ قلت‏:‏ ‏"‏هذا فراق بيني وبينك‏"‏‏؟‏‏.‏

لأية عـــلة ولأي حــــال*** صرمت حبال وصلك عن حبالي

وعوضت البعاد من الـتـدانـي*** ومر الهجر من حلو الوصـال

فإن أك قد جنيت علـيك ذنـبـاً*** ولم أشعر بـقـول أو فـعـال

فعاقبنـي عـلـيه بـأي شـيء*** أردت سوى الصدود فما أبالـي

وصريع المحبة يستغيث وينادي، حتى أقلق الحاضر والبادي‏.‏

تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي *** وللناس أشجان ولي شجن وحدي

أحبكم ما دمت حـياً وإن أمـت *** فواكبدي من ذا يحبكم بـعـدي

وقتيل الشوق يتعلق بما يرى، ويتشبث بما يسمع، يرتاح إلى السهر ومقصوده غيره، وإلى الشجر ومغنين طيره‏.‏

للمهيار‏:‏

أيا بانة الغور عطفاً شُـفـيت*** وإن كنتُ أكني وأعني سواكِ

أحبكِ من أجل من تعلـمـين*** لو أني أراه كمـا قـد أراكِ

ذكرت ويا لهفي هل نـسـيتُ*** لياليَ أسمـرُهـا فـي ذراكِ

كفى الوجد أني إذا ما استرحت*** إلى اسمك عمّيتُـه بـالأراكِ

إذا الصد أرضاكِ فهو الوصال*** فإني فعلت فـأهـلاً بـذاكِ

الفصل الثامن ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

الشهوات تغر وتعر، وتمر عيش العواقب وتمر، وتبكي عين الندم أضعاف ما تسر، ألا يقظ‏؟‏ ألا حذر‏؟‏ ألا حر‏؟‏

هل الدهر إلا ما عرفنا وأدركـنـا *** فجايعه تبقى ولـذاتـه تـفـنـى

إذا أمكنـت فـيه مـسـرة سـاعة*** تولت كمر الطرف واستخلفت حزنا

إلى تبعات في المعـاد ومـوقـف*** نود لديه أننـا لـم نـكـن كـنـا

حصلنا على هـم وإثـم وحـسـرة*** وفات الذي كنا نـلـذ بـه عـنـا

كأن الذي كنـا نـسـر بـكـونـه*** إذا حققته النفس لفظ بلا معـنـى

أن المواعظ قد أفصحت وأعربت، غير أن الزخارف للواحظ قد أدهشت وأعجبت، وإنما تقطع مراحل الجد بالعزم والصبر، ونظر اللبيب المجد إلى آخر الأمر، أو ليس الصحيح بعرض عارض الأسقام والأوصاب‏؟‏ أوما المسرور بالعرض كالغرض لسهام المصاب‏؟‏ أو ما يكفي من الزواجر‏؟‏ كف كف الأحداث مبسوط الأمل، أما يشفى من البيان‏؟‏ عيان الأعيان‏.‏ في الأجداث خالين بالعمل أين من فاق قمم الشرف‏؟‏ فعزل وولى، أما ذاق ألم المنصرف‏؟‏ فنزل وولى أين من نشا، في علي ونهى وندى‏؟‏ سلب ولم يشأ، حلى ولهى وجدى، أين المسرور بشهوات أمسه، حزن، أين المغرور بلذات نفسه غبن‏:‏

فيا آملاً أن يخلد الـدهـر كـلـه *** سل الدهر عن عاد وعن أختها إرم

إذا ما رأت الشيء يبليه عـمـره *** ويفنيه أن يبقى ففـي دائه عـقـم

يروح ويغدو وهو من موت غبطة *** وموت فناء بين فكين من جـلـم

تحد لنا أيدي الـزمـان شـفـاره *** ونرتع في أكلائه رتعة الـنـعـم

نراع إذا ما الموت صاح فنرعوي *** وإن لم يصح يوماً براتعنا خضـم

ألا إن بالأبصار عن عبرة عـمـى *** ألا إن بالأسماع عن عظة صمـم

سيكشف عن قلب الغبي غطاؤه *** إذا حتفه يوماً على صدره جثم

يا معتقداً دار القلعة قلعة، أما تراها تميد بسكانها، والشاهد ما يشاهد عواصف الحوادث تنسف جمال المقتنى، ومعاول الزمان تهدم مشيد المبتنى، وكلما ارتفع كثيب أمل وهال انهال، يا مهلكاً نفسه التي لا قيمة لها لأجل دينا لا وقع لها، إلى كم هذا الحرص‏؟‏ وما تنال غير المقدور، أما رأيت مرزوقاً لا يتعب‏؟‏ ومتعباً لا يرزق‏.‏ هذا موسى في تقلقل ‏"‏أرني‏"‏ وما أري، ومحمد يزعج عن منامه‏.‏ وما طلب ‏"‏قضاها لغيري وابتلاني بحبها‏"‏ واعجباً يطلب موسى التجلي، فيمنع ويرزق الجبل‏.‏

أراك الحمى قل لي بأي وسيلة *** توسلت حتى قبلتك ثغورهـا

لقد أنضى الحرص مطية عمرك، وما وصلت بلد الأمل، لو قنعت الذبابة بطرف ظرف العسل ما تلفت، لو عرفت قيمة نفسها رخصت أو غلت ما أوغلت، شقايق اللذة‏.‏ تروق بصر الحس، وسن العواقب تضحك من المغرور، يا دني الهمة أعجبتك خضرة على مزبلة، فكيف لو رأيت فردوس الملك‏؟‏ قنعت بخسايس الحشايش والرياض معشبة بين يديك، تقدم بالرياضة خطوات وقد وصلت‏.‏

الغور يا ركابنا الـغـور إذن *** أن صدق الرايد في هذا الخبر

وإن حننت للحمـى وروضـه *** فبالغضا ماء وروضات أخـر

الهمم تتفاوت في جميع الحيوانات، العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتاً ولا يقبل منة الأم، والحية تطلب ما حفره غيرها‏.‏ إذ طبعها الظلم، الغراب يتبع الجيف، والأسد لا يأكل البايت، الكلب ينضنض لترمى له لقمة، والفيل يتملق حتى يأكل، للصيد كلاب، وللمدبغة كلاب، أين الأنفة‏؟‏ النحل يغضب فيترضى من لجاج، والخنفساء تطرد فتعود، الاختبار يظهر جواهر الرجال، بعثت بلقيس إلى سليمان هدية لتسبر بها قدر همته، فإن رأتها قاصرة، علمت أنها لا تصلح للمعاشرة، وإن رأتها عالية تطلب ما هو أعلى، تيقنت أنه يصلح‏.‏

يا هذا الدنيا هدية بلقيس فهل تقبلها‏؟‏ أو تطلب ما هو أنفس‏.‏ ويحك أحسن ما في الدنيا قبيح، لأنه يشغل عما هو أحسن منه، أترى‏؟‏ لو ابتليناك بترك عظيم كيف كنت تفعل‏؟‏ إنما رددناك عن دنس، ومنعناك من كدر، ثم ما علمت أن الثواب على قدر المشقة، ويحك إن الأرباح الكثيرة في الأسفار البعيدة، الصبر والهوى ضرتان فاختر إحدى الضرتين، فما يمكن الجمع من دام به الخمار‏.‏ في ديار الهوى، لم يفتح عينيه إلا في منازل البلى، من غرق بنهر المعلى طفا تحت البلد، واعجباً، اعدم نظر العقل بمرة‏؟‏ أو بعينه رمد، لو قيل لك ارم ثوبك على هدف مرمى لم تفعل إشفاقاً عليه، وهذا دينك في عرض عرضك، قد تمزق من نبل الهوى، لو قيل‏:‏ زد في النفقه خفت على المال وقد حفت في إنفاق العمر على معشوق البطالة، رميت يوسف قلبك في جب الهوى، وجئت على قميص الأمانة بدم كذب، ويحك‏!‏ كلما أوغلت في الهوى زاد التعرقل‏.‏ ويحك‏!‏ ما يساوي النصاب المسروق قطع اليد‏.‏ مجلسنا بحر، والفكر غواص يستخرج الدر، ومراكب القلوب تسير إلى بلد الوصل، وأنت تقف على الساحل ‏"‏وترى الفلك مواخر فيه‏"‏ إن قعر جهنم لبعيد، ولكن همتك أسفل منه، خنقنا دخان التخويف، افتحوا للرواح‏:‏

إلى كم عتاب يسد الفـضـا *** سلام عليكم مضى ما مضى